إشراقة

 

الانتهازيّ والانتهازيّة

 

 

 

 

الاِنْتِهَازِيَّةُ Opportunism لغةً من الثلاثي المجرد نَهَزَ فلانٌ «ف» نهزًا: نَهَضَ ليتناول شيئًا ما؛ ونَهَزَ الشيءَ:دَفَعَه. يُقَال: نَهَزَ راحلتَه: حَفَزَها ودَفَعَها في المسير؛ ويُقَال: نَهَزَتْني إليك حاجةٌ: حَفَزَتْني وجاءت بي إليك.

     ومن الثلاثي المزيد فيه انْتَهَزَ الشيءَ «افتعال» قَبِلَه وأَسْرَعَ إلى تناوله. يقال: انْتَهَزَ الفُرْصَةَ: اغْتَنَمَها وبَادَرَ إليها. والانتهازيةُ بهذا المعنى خلقٌ محمودٌ.

     واصطلاحًا: سياسةُ انتهازِ الفرص، والإفادةِ من الظروف، وبخاصّة من غير ما اعتبار للمبادئ الأخلاقية. والانتهازيةُ بهذا المعنى الأخير خلقٌ مذمومٌ. وهي بهذا المعنى اشتهرت اليوم، وعَمَّ استعمالُها في المجتمع الكتابي.

     وإنماتُذَمُّ الانتهازيّةُ؛ لأن صاحبها يكون نفعيًّا، يحاول دائمًا وبكل حيلة تحقيقَ مصلحته الذاتية على حساب المصالح العامة العليا والأهداف الجماعيّة السامية. وهي بهذا المعنى تتوافق مع النظرية القائلة: «الغايةُ تُبَرِّرُ الوسيلةَ» التي صارت داءً خبيثًا يُطِيح بالأمم والأقوام، ويفتك بالشعوب والحضارات.

     الانتهازيّةُ بمعناها الإيجابيّ المُتَمَثِّل في انتهاز الفُرَص المُتَاحَة وتحقيق الخير فيها لذاته ليست مذمومةً؛ بل هي صفةٌ محمودةٌ مطلوبةٌ، وإنما المذمومةُ هي بمعناها السلبي المُتَمَثِّل في الإفادة من الظروف مُتَخَطِّيًا المبادئَ الأخلاقيّةَ والقيمَ الإنسانيةَ.

     فالانتهازيُّ شخصٌ نَفْعِيٌّ أَنَانِيٌّ مُغْرِضٌ، لديه طموحٌ كبيرٌ، وإلى ذلك ضعيف الشخصيّة، مَهْزُوزُ الكيان، يبدو للناظر أنه مظلوم فيما يَتَصَدَّىٰ له من الأهداف، رغم أنه يكون ظالمًا ظلمًا مُتَنَاهِيًا غيره من الأفراد والمجتمع، وهو في الواقع صورة حديثــة للمنافقين الذين قال عنهم الله عَزَّ وجَلَّ: «لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرىً مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَّرَآءِ جُدُرٍط» (الحشر/14) و«يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ»(المنافقون/4) فالانتهازي يَتَمَيَّز عن غيره بأنه يُجيد الطعنَ من الوراء، كما يُجيد نسج المؤامرات ونصب الفِخَاخ تحقيقًا لمصالحه، ويقف دائمًا مع الأكثر جاهًا ومكانة حمايةً لنفسه من أي ضرر يظنّ أنه يصيبه.

     ولا يقبل أيَّ نقد أو توجيه أو نصح يُوَجَّهُ إليه؛ لأنه يُسِيء الظنَّ بكل من يَتَّجه إليه بنصح أو توجيه أو نقد. وأسلوبُه في الحياة هو ابتزازُ أعضاء المجتمع بالتهديد والترهيب والتحايل، ويَتَصَيَّد بصفة خاصّة الفردَ ذا الحاجة إليه؛ حيث يرى ذلك فرصةً ذهبيةً له، فيمارس معه أنواعًا من الخداع والمغالطة، والمساومة والإذلال، ليُحَقِّق منه أغراضَه التي هي كلُّ شيء لديه في هذه الحياة الدنيا. ومبدؤُه الذي يتقيّد به دائمًا أن يأخذ أكثر مما يُقَدِّم.

     وهو يُجيد التبرير لسلوكيّاته السلبيّة وتجاوزاته الخاطئة، وفي جانب آخر يُضَخِّم أخطاءَ الآخرين، ولا يُقَيِّمُهُمْ إلّا من خلال أسوإ أعمالهم؛ لأنه لا يعرف الموضوعيّةَ والإنصافَ، فهو يصطاد أخطاءَهم ويُوَظِّفُها لدفعهم إلى ارتكاب مزيد من الأخطاء، لِيُرْغِمَهُمْ على مزيد من الاعتذار والتنازل. من سماته أنه يكون أَدْهَىٰ في تبرئة نفسه من التهم والانتقادات الواقعيّة، ويَتَفَنَّن في تعكير الماء ليجد فرصةً مواتيةً للاصطياد فيه، وأنفعُ عوامل النجاح لديه هو دفع مَنْ حولَه إلى معارك داخليّة وصراعات أهليّة، لأنها تُسَهِّل عليه التمتعَ بالفرص لإنجاز ما يريد إنجازه من الأهداف.

     وهو أبعدُ ما يكون عن تقديم تضحية ما؛ لأنه تَرَبَّىٰ على الاستجمام وتوخّي السهولة والقعود عن الاجتهاد وبذل النفس، فتَعَوَّدَ تحقيقَ المكاسب بأسهل طريق وأقصر سبيل وأقل جهد. وبما أنه أبعد ما يكون عن مواقف الاستقامة والصدق والنزاهة، يَتَّسِم بالجبن والخوف، ويبتعد عن الشجاعة والجراءة؛ ولذلك يكون دائمًا أسهلَ هدف للأعداء الذين يُوَظِّفُونه طابورًا خامسًا ويخترقون على كاهله المجتمع؛ حيث إنه يُطْلِعُهم على الثغرات التي ينفُذون منها إلى المجتمع ويفعلون به الأفاعيل.

     والانتهازي يَتَّسم بمخالفة قوله بفعله، أي إنه لا يلتزم بالصدق؛ ولكنه يَتَشَدَّق دائمًا بالمبادئ والمِثَالِيَّات. وذلك ليَذُرَّ الرَّمَادَ في العيون، ويُمْعِن في خداع الناس، ويُبْعِد التهمةَ عن نفسه. كما أنه يُكْثِر من الضجيج دونما رصيد من العمل والإنجاز؛ ولذلك ينصبّ على جهود الآخرين فيَتَسَرَّقُها في وقاحة مُتَنَاهِيَة، لأنه يترعرع غارقًا في الأثرة والأنانيّة وخدمة الذات التي حولها يدور وعليها ينطوي وبها يهتمّ قبل كل شيء.

     الانتهازيّةُ داءٌ عضالٌ يفتك بالمجتمعات، قد يَشْقَىٰ به فردٌ منذ طفولته، إذا فتح عينيه في بيئة فاسدة منحطة قيمًا ومبادئ، ضَعُفَ فيها الإيمانُ بالله تعالى، وقَلَّ فيها الوازعُ الدينيُّ والروحُ الإيمانيّة، والثقةُ بالله تعالى وعدلِه فيما يفعل ولا يفعل. ألا إن فقدانَ الخوف من الله العزيز القويّ القهّار وعدمَ مراقبته في السرّ والعلن، وعدمَ الإيمان المطلوب بأنه يعلم السِرَّ وأخفى، كلُّ ذلك أهمُّ الأسباب التي تُخَرِّجُ الانتهازيين والأنانيين والمغرضين ذوي الأثرة المُفْرِطَة في المجتمعات البشرية، التي تَضْعُفُ فيها الجهاتُ الرقابيّة، وتقعد عن ممارسة صلاحياتها المُخَوَّلَة.

     وعلى ذلك فالانتهازيُّ يمتاز دائمًا وبِاطِّرَاد بسلوكيات تُمَيِّزُه عن أفراد المجتمع الآخرين، ومن نعمة الله على الآخرين غيره أن الانتهازيَّ لا يعرف طَوَالَ حياتِه الانتهازية نصيبًا من السعادة والارتياح، وطمأنينة الحال، وراحة البال، وانشراح الصدر، وإنما يظلّ قَلِقًا مضطربًا مهمومًا متوترًا مُحَطِّمًا؛ فالانتهازيّةُ لا تُورثه إلّا متعةً عاجلةً ذاهبةً تتلوها حسراتٌ لا تُزَايِلُه؛ لأنه لا يَقْنَع بما كسبه ولا يرتاح إلى ما قسمه الله تعالى له بعدله وفضله؛ فهو تُدْرِكُه لا مَحَالَةَ عقوبةُ الظالمين عبادَ الله، بسبب ما تنطوي عليه انتهازيّتُه من انتهاك للحقوق الإنسانية وظلم وتَعَدٍّ على العباد.

     والانتهازيُّ مهما تَسَتَّرَ فإنه يَتَعَرَّىٰ، ولا ينجو من عواقبه الوخيمة، ويفتضح أمام أفراد المجتمع عاجلًا أو آجلًا، إلى ما يلاقيه في الآخرة من مؤاخذة الله العليم الخبير؛ حيث يأتي مُفْلِسًا يوم القيامة، وليس بيده شيء سوى الحرمان والندم الذي لا ينفعه؛ لأنه يكون قد فاته مجالُ العمل وهو الدنيا، ويكون ماثلاً لدى الله في موقف المجازاة.

     ومن دراسة صفات وأحوال الانتهازيّ يتوصّل الإنسان إلى أن المواقف الآتية هي محطات رئيسة لازمة في حياته:

·         هو يَحْرِمُ الدولةَ والشعبَ، والأفراد والجماعة، المصالحَ العُلْيَا والمكاسبَ النبيلة.

·         ويتملّق لامَحَالَةَ للناس للتخلّص من عبء المحاسبة والمؤاخذة، ويُحَمِّل الآخرين فسادَه وتقصيرَه.

·         والبيئةُ والأسرةُ هما المكان الأوّل الذي يُفَرِّخ الانتهازي.

·         والرقابةُ على أيِّ انتهازيّ لا تنفع ولا تؤتي ثمرة إلّا إذا كانت هناك رقابةٌ على الرقابة نفسها.

·         والانتهازيُّ يَحْرِمُ بالتأكيد المجتمعَ الروحَ المعنويّةَ والعطاءَ الثرَّ والأداء الحسن.

·         والحرصُ الدائم والاضطرابُ الفكريُّ والتحطّمُ النفسيُّ مصيرُ الانتهازي الذي لامَهْرَبَ له منه؛ ولكنه من سوء الحظّ لا يشعر بذلك إلّا عندما يجتاز مُعْظَمَ محطّات حياته وتتقدم به السنّ ويكون قد وَلَّىٰ دوره في الحياة.

 

 

 

(تحريرًا في الساعة 12:30 من ظهر يوم الخميس: 12/ربيع الأول 1437هـ  الموافق 24/ديسمبر 2015م)

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى 1437 هـ = فبراير – مارس 2016م ، العدد : 5 ، السنة : 40